Saturday, January 21, 2006

فستق مملح

لم يكن قد مر سوى شهور قليلة على وفاة والدتى .. حين أخبرنى والدى برغبته فى زيارة قبرها الكائن بضواحى حلوان .. كانت ثانى زيارة لنا .. كعادته دائماً إستعد مبكراً و طلب منى شراء باقة زهور مناسبة .. ليس لكونه أبى الذى لم تنجح كل خلافاتنا الفكرية فى طمس ذلك ذلك الإجلال القدسى الذى أكنه له سراً ..و لكنه كان دوماً مثار دهشتى وفضولى المعرفى .. كان أبى دوماً كخزانة أسرار فولاذية .. لم أطلع على نصف محتوياتها رغم سنواتنا معاً التى تربو على الثلاثين ..طالما إحترت فى فهم ذلك الرجل .. جنوبى النشأة .. صارم النظام حاد الملامح .. لا أنسى أبداً كيف كان يرغمنا على ترتيب أشيائنا بعد ظهر الجمعة من كل أسبوع .. حتى صرنا نكره الجمعة .. دروس الفرنسية الإجبارية فى طفولتى المبكرة جعلتنى أعرض عن الفرنسية رغم رغبتى فى تعلمها .. كنا دائماً نختلف .. لم ينجح فى أن يورث أى منا بعضاً من مميزاته رغم محاولاته الحثيثة لذلك .. ورثت عصبيته المنفلتة أحياناً ..عناده الصلب .. كانت كاريزما أبى و قدرته على كسب حب و إحترام كل من يعرف إسمه مثار إعجابى بهذا الرجل .. تقديسه لعمله ومبادئه .. كأنه خلق ليتبعه الآخرين .. تحيط به هالة من حوارييه أينما وجدته .. لكننا لم نتفق ..ظل كل منا يكن للآخر حباً لا يفصح عنه .. كان لا يفصح عن مشاعره
مهما حدث .. لا أتذكر مرة ضمنى فيها أبى إلى صدره أو قبلنى بشوق و إن مر عام و نصف دون أن يرى كلانا الآخر .. كان فقط يعانقنى عناق خفيف و يربت على كتفى ثم يبتعد .. كأننا لم نتقابل منذ يومين .. كم شكت لى أمى- رحمها الله-من صلابته و قلة بوحه التى كانت تضجر حياتها معه.. كان ذلك يضحكنى و يحرضنى أن أتلقف شكواها بالمداعبات .. و كان الأمر ينتهى بها تدفعنى من فوق سريرها إلى خارج الغرفة و هى تقول " كده ..! طب قوم يا وسخ من هنا .. ما انت طبعاً زيه .. صعيدى " و أحياناً كانت تسبنى سبابأ قبيحاً تعلم أنه سيقتلنى ضحكاً لأنها لم تكن تجيده .. كان يخرج منها ركيكاً رقيقاً .. كان يعشق هو منها الشىء نفسه .. يستمتع بغيظها حتى تمازحه بسبة من النوع ذاته بطريقتها حتى يقهقه و تهز جلجلة الضحكة الجدران .. تعشق هى الفستق المملح و تدسه تحت وسادتها أو بين طيات ثيابها حتى لا يشاركها فيه أحد.. يعطيها أبى حبات قليلات و يستمتع بشجارها عندما تعاود طلب المزيد منه ..
فيعطيها ليشاركها قزقزة بعد قليل .. يتمازحان كطفلين على حبات الفستق

كان الأوتوستراد هو أسهل الطرق إلى قبر أمى برغم وحشته .. يقود أبى ببطء و دون أن يتفوه بشىء .. كنت فى المقعد الخلفى للسيارة و أخى الكبير إلى جواره كان هذا مقعد أمى دائماً .. بجوارى كانت باقة الورود التى إشتريتها ..لم أشتر ورد فى مناسبة كهذه من قبل .. أطبق علينا صمت ثقيل قطعه أبى و هو يناولنى شىء بيديه دون أن ينشغل عن الطريق .. مددت كفى أتناوله .. كانت بضع حبات من الفستق المملح وضعتها فى فمى و أنا غارق فى دهشتى عن سر ذلك الفستق الذى إكتشفت أن أبى يحمل منه كيساً كبير ملىء
به..خاصة أنه لم يحب تناوله إلى هذا الحد .. إنتزعتنى تلاوة عبد الباسط التى تنبعث من مذياع السيارة من كل أفكارى .. غرقت فى ذكريات طفولتى التى كان صوت المذياع قاسماً مشتركاً فيهاخاصة ترتيل عبد الباسط صباحاً .. المدرسة و البرنامج العام .. و أمى توقظنى مبتسمة كل صباح .. قرص اللباليب حينما أشرع فى التمارض هرباً من عقاب ثقيل سيحل بى لعدم إنهاء واجبى المنزلى ..
توقف صوت محرك السيارة فهبطنا .. ناولنى أبى وعائين بهما ماء ..تناول أخى أحدهما .. كنت أحمل باقة الزهور و أبى يحمل ثمة أكياس سوداء ممتلئة .. ربما ملابس لفقراء يسكنون المقابر .. كانت عينيه تختفيان تماماً وراء نظارته الشمسية الداكنة.. أمام باب المقبرة الحديدى المغلق بقفل يغلفه كيس بلاستيك ليمنع صدأ القفل .. أخرج أبى مفتاحه و بدأ فتح القفل .. لكنه لم ينفتح .. حاول مرة أخرى لكنه لم يفلح .. هنا أخرج من كيسه الأسود أنبوبة حقن رفيعة بها قليل من زيت نفاذ الرائحة .. أى رجل هذا !! أى نظام و أى أفكار و حسابات تجرى فى رأسه .. يعمل حساب لكل شىء .. أى خبرة تلك و أين تلقنها و متى .. يفاجئنى إلى الآن بتفاصيله الغير متوقعة ..لا فائدة .. قالها و هو يدق فوق القفل الكبير بغية كسره .. ثم أخرج وعاء الماء و أخذ يحاول رش الصبارة الوحيدة القابعة فى ركن المقبرة بالماء من الفتحات الضيقة المتوازية للباب الحديدى .. عبثاً كان يحاول وصلت بضع قطرات قليلة إلى الصبارة التى كانت توشك أن تذبل .. قررنا أن نقرأ لها القرآن أمام الباب الموصد .. و نكتفى بالبقاء أمام قبرها من الخارج على أمل أن نهشم القفل بأدوات خاصة فى الزيارة القادمة .. أنهينا القراءة و الدعاء .. إلتصقت بالباب أكثر و أنا أنثر الورود من فتحات الباب
الضيقة ..كنت أهمس لها بسر عميق .. بينما كانوا يستعدون للمغادرة .. إقترب أبى من الباب حتى صار بجوارى تماماً و هو يلقى بورود كانت فى يده و هو يتمتم بشىء لم أسمعه .. على وجهه تعبير لن تفلح كلماتى فى وصفه .. ذهبت أعاون أخى فى حمل بقية الأشياء و أدع لأبى لحظات ربما يهمس لها بشىء كما فعلت و أخى .. لكن صوت عجيب أوقفنى و أنا فى طريق الخروج .. فالتفتت لأرى أبى و هو يخرج من كيس يحمله كل ما تبقى من حبات الفستق المملح التى يحملها و ينثرها من فتحات الباب الضيقة ..يتمتم بكلمات لم أسمعها و تنزلق على وجنته دمعة لم تفلح نظارته الداكنة فى مداراتها

Monday, January 02, 2006

الكل ينتظر و لا تأتى الحافلة


و إنقضى عام الفراق بلا فراق جديد .. عاهدت عينى ألا تبصران سوى الأفق .. و عقلى ألا ينشغل بترهات الحمقى و أشباه الناس .. و قلبى ألا يلتفت لدقات من لا يدركون من الحب سوى ما شاهدوه فى أفلام بلهاء أو ما سمعوه من أصدقاء أكثر بلاهة.. عزمت أن أصبح تحت تصرفى الكامل دون مشاركة من أحد .. صرت أقرب لنفسى مما أتخيل .. أكثر خصوصية من أى وقت آخر .. مارست الفراق و مارسنى حتى بت لا أتألم بعده .. خبرت الفقد حتى مل قلبى البحث عما فقد .. فقط أمى لم تزل غصة الحلق .. و من عداها أرقام لا أهتم بإحصائها.. تخلصت من تلك النفايات الآدمية..و ذلك الصخب الذى كان يملأ رأسى بلا داع..لم يبقى سوى الصادقون يؤنسون وحشة الأيام ويضيئون ظلمتها .. و جلسنا نحتفل بانقضاء العام الردىء .. كانت الآمال تملأ الفراغ.. ضحكنا حتى البكاء .. و حينها لم نعد للضحك مرة ثانية .. لم يكن الضحك شديداً إلى حد البكاء .. بل كان الضحك ذريعة للبكاء ..فجروح العام الردىء كانت تطل من العيون النصف منطفأة .. و حين صار الرحيل حتمياً مع شعاع الضوء الأول ..كانت الوجوه التى تصفحتها فى طريق العودة تشى بأن شيئاً جديداً لم يحدث .. و كعادة كل صباح .. كان الكل ينتظر و لا تأتى الحافلة

ياسر 06

الصورة ل .. حمدى رض
ا